ادعمنا

الحصانة السيادية - Sovereign immunity

تعتبر سيادة الدولة هي الركيزة الاساسية التي تبني عليها حصانتها، فحصانة الدول تعتمد على امتلاكها لسيادتها وبالتالي مقدرتها على تسيير شؤونها الداخلية والخارجية بنفسها دون حدوث تدخل من أيَّة دولة أخرى، ولهذا يعد مبدأ الحصانة السيادية للدولة من المبادئ الهامة في القانون الدولي العام، وهذا ما سنحاول بدورنا في مقالنا هذا أن نتضمنه بشكل تفصيلي وذلك بالتطرق لمفهوم الحصانة السيادية.   

 

1 - نشأة وتعريف الحصانة السيادية:

تاريخيا تعود جذور الحصانة على المستوى الدولي إلى القانون الانكليزي وذلك في القرن السادس عشر، وبالذات في عهد الملك "ادوارد الأول" حينما شرع لنفسه قانونا خاصا استثناه من المثول أمام المحاكم الانكليزية آنذاك، وهو قانون لم يطرح للنقاش أو الاعتراض عليه مطلقا في البرلمان الانكليزي، كما يشير إلى ذلك كل من جون لوباتو - Lobato John وجيفري تيودور- Theodore Jeffrey، بل وأصبح مذهبا قانونيا معتدا به أرسى لمفهوم النأي عن المساءلة أمام القانون.

فيما يشير كريستوفر وايتوك - WHYTOCK. A CHRISTOPHER إلى أن مفهوم الحصانة السيادية ظهر أول مرة في القرن السادس عشر، وهي حصانة شخصية يتمتع بها الملوك في أوربا آنذاك، واستمر الحال حتى ظهور الدول القومية الحديثة حينما بسط مفهوم الحصانة على الدول وما يلحق بها من كيانات بعيدة عن أرض الدول الأم.

وفي هذا الشأن يذكر الدكتور عصام العطية بأنَّه: "ظلت فكرة السيادة متسلطة على كل نظريات القانون الدولي العام حتى أوائل القرن العشرين، حيث تطورت فكرة السيادة عما كانت عليه في ظل القانون الدولي التقليدي، فبعد أن كان مفهوم السيادة يعني أن الدولة مطلقة التصرف لا تتقيد بأي شيء إلا بإرادتها تلجأ متى ما أرادت إلى استخدام القوة لتأكيد سيادتها و إرادتها، أصبحت سيادة الدولة في العصر الحاضر مقيدة بقواعد القانون الدولي العام".

ولقد مر مفهوم الحصانة السيادية بمرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى وتمتد من القرن السادس عشر إلى  نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي مرحلة الحصانة المطلقة، إذ شهد القضاء الأوروبي قضايا عدة كرست مبدأ الحصانة المطلقة للدول بمواجهة القضاء الأجنبي، ففي العام 1812م طرحت القضية الأولى المعروفة بقضية شونير اكستشاينج ضد مكفادون (Schooner Exchange/Mcfaddon)، وتتلخص هذه القضية برفع دعوى أمام محكمة مقاطعة فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأميركية ضد سفينة حربية فرنسية، نسب إليها مخالفة أثناء إبحارها في المياه الإقليمية الأميركية، وقد قضت المحكمة في البداية بخضوع السفينة للقضاء الأميركي، إلا أن المحكمة العليا نقضت هذا الحكم ووجدت أن السفينة "شونير" هي سفينة حربية تابعة لأسطول دولة أجنبية ذات سيادة، وبالتالي تستثنى من ولاية القضاء الوطني الأميركي.

وفي قضية أخرى سجلت سابقة قضائية جديدة، حيث نظرت محكمة إنكليزية دعوى ضد سفينة تجارية تابعة للأسرة الملكية البلجيكية، بحجة أنها خالفت القوانين في أثناء مرورها في نهر التايمز في إنكلترا، ولكنها قضت بأن السفينة تتمتع بالحصانة لكونها تابعة لحكومة مملكة بلجيكا، وإن كانت تمارس أعمالا تجارية خاصة.

وعلى غرار المحاكم الإنكليزية، نقضت محكمة التمييز الفرنسية في كانون الثاني 1849م حكم الاستئناف، حيث ردت دعوى المدعي بحجز أموال عائدة للدولة الإسبانية استيفاء لثمن أحذية ابتاعتها لجيشها .

ومما تقدم يتضح أن المفهوم المطلق للحصانة السيادية يعزز الفكر القائم على منح الأولوية لسيادة الدول أمام القضاء الأجنبي بهدف استقرار العلاقات بين الدولة.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الحصانة المقيدة، التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى، حيث ازداد نشاط الدولة لأسباب تتعلق بالتسلح والتموين، وتبع هذا النشاط تطورا في الاجتهاد لجهة التمييز بين تصرفات الدولة السيادية وبين الأعمال التجارية، ففي 19 آذار/مارس 1919م قضت محكمة "رن" بعدم اختصاصها لأن الباخرة البريطانية معدة لسد حاجات الدفاع الوطني بصرف النظر عن فكرة التجارة أو المضاربة، وكان هذا القرار سببا في التفريق بين الأعمال التجارية التي تقوم بها الدولة وبين الأعمال المتعلقة بسلطانها، منكرة عليها حق الحصانة في الأولى، وقد اكتسب هذا التفريق أهمية كبرى في الدعاوى التي أقيمت على الوكالات التجارية السوفياتية، حيث أدعت جمعية "فرانس – إكسبورت" على الوكالة التجارية السوفياتية مطالبة إياها بثمن بضاعة فرنسية سبق أن استلمتها بغرض عرضها في موسكو، وقد أعلنت محكمة التمييز في 19 شباط/فبراير 1929م أن الوكالة السوفياتية تمارس نشاطا تجاريا ويشكل هذا النشاط عملا تجاريا بعيدا عن مبدأ سيادة الدولة، ويخضع القضاء الفرنسي للولاية الإقليمية، ولتحديد طبيعة العمل وتمييز التجاري عن السيادي تطبق المحاكم الناظرة بالنزاع قانون بلادها Lex Fori.

ومن هنا فان الحصانة السيادية يتم تعريفها على أنها الكفالة التي منحها القانون الدولي العام للدولة والتي بموجبها تتمتع بالحصانة من سلطان واوامر المحاكم الاجنبية ولا تخضع لقوانين دولة اجنبية اخرى وانما تحاسب على اخطائها وفقا لقوانينها الداخلية ويستثني من ذلك الحالات التي تتنازل فيها عن تلك الحصانة.

كما عرفت ايضا على انها مبدأٌ وقاعدةٌ من قواعد القانون الدولي الراسخة، التي يلزم جميع الدول، وفي جميع الأوقات، احترامها والامتثال لأحكامها وعدم الخروج عليها بأية حال من الأحوال، إذ لا يجوز لدولة من أعضاء الجماعة الدولية رفض الامتثال والإذعان لأحكام مبدأ الحصانة السيادية، حتى وإن كان هناك خلاف بينها وبين دولة أخرى، وإلا عُدت دولة مارقة وخارجة على القانون ومنتهكة للشرعية الدولية.

ولا تقتصر الحصانة السيادية على الدول فقط، بل تنطبق، بالقدر ذاته، على قادة الدول وممثليها ووكلائها، فلا يجوز لمحاكم دولة ما مقاضاة حاكم أجنبي عن طريق وسائل التقاضي المتبعة فيها، لأنه يمثل دولته ويعمل ويتصرف باسمها، ومن البديهي أن تمتد إليه الحصانة الممنوحة لدولته احترامًا لسيادة دولته واستقلالها، وتمكينًا له من أداء المهام المسندة إليه، والأمر ذاته ينطبق على مسؤولي الدولة وممثليها الذين يتصرفون نيابة عن دولهم. ومن ثم، تعد الحصانة السيادية قيدًا أو استثناءً تنص عليه أحكام القانون الدولي والقوانين الوطنية النافذة.

وقد اختلف شمول مفهوم الحصانة السيادية من دولة إلى أخرى، فبعض الدول الملكية النزعة اعتمدت في قوانينها على تطبيق الحصانة السيادية على شخص الملك والعائلة الحاكمة واستثنت من رئيس الوزراء والوزراء والمسؤولين والموظفين الحكوميين والدبلوماسيين، في حين أن بعض الدول الأيديولوجية تطبق الحصانة السيادية على كل مرافقها وأشخاصها.

 

2- الحصانة السيادية لدى بعض الدول:

مثلما أشرنا آنفا فإن مفهوم الحصانة السيادية يختلف من دولة إلى أخرى، ففي أستراليا على سبيل المثال لا ينص القانون على وجود حصانة سيادية تلقائية فيما يخص الولايات والكومنويلث الأسترالي، ولكن نصت المادة رقم 109 من الدستور الأسترالي على أنه :"عندما يتناقض قانون الولاية مع قانون الكومنويلث الحاكم يطبق قانون الكومنويلث " ليلغي التناقض، وبالتالي يكون التاج الأسترالي محصنا ضد أي قانون معين يخالف قانونه، أما في بلجيكا ، فتنص المادة 88 من الدستور على أن الملك محصن من كل تبعات قانونية أو مسؤولية، وتقع المسؤوليات على عاتق الوزراء، وفي مملكة بوتان، لا يتحمل الملك المسؤولية القانونية عن أفعاله وفق لأحكام الدستور، أما في كندا، التي ورثت الحصانة السيادية من القانون البريطاني، فقد تراجعت تلك الحصانة مع مرور الزمن، وبالتالي، ووفقا للقانون، يعد التاج مسؤولا عن أخطائه، وقد جاء هذا التطور ثمرة للقوانين الموضوعة وليس ثمرة للقانون العام. أما في الصين ، فإن السلطات تعترض على تقييد الحصانة السيادية للدول أو الحد منها وتعتبرها إحدى المبادئ الأساسية للقانون الدولي. في حين تعتمد الدنمارك مبدأ " الملك لا يخطئ" وعليه "لا يجوز مساءلة الملك عن أفعاله، ويعتبر الوزراء مسؤولين عن سلوك الحكومة وتحدد مسؤولياتهم وفق القانون."

 

3- انواع الحصانة السيادية:

هناك نوعان من أشكال الحصانة السيادية:

أ/ الحصانة من الدعوى (تُعرف أيضا بالحصانة من الولاية القضائية أو القضاء): لا يحوز اخضاع رئيس الدولة شخصيا أو أي شخص آخر غيابيا أو بشكل تمثيلي أو بدرجة أقل أن يكون مدعى عليه، ويجب أن لا يكون موضوعا لإجراءات المحكمة ولا في المنتديات المشابهة، مثل قرارات التحكيم أو قرارات المحاكم أو التعويض دون موافقته.

ب/ الحصانة من التنفيذ: تعني الحصانة من التنفيذ أنه حتى إذا نجح شخص بأي شكل من الأشكال في دعوى ضد السيادة، فقد يجد أنه هو والحكم نفسه بدون وسائل إنفاذ (أي دون وسائل تنفيذ لهذا الحكم). 

 

4- التنازل عن الحصانة السيادية:

لقد منح القانون الدولي الدولة الحصانة السيادية التي تعزز مناعتها أمام الغير ويجب عدم التنازل عنها بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف. ولا ينبغي الخلط بين الحصانة السيادية للدولة وبين مناعة الدولة، فالمناعة تفترض أنه لا يجوز لدولة أو صاحب سيادة أن يخضع للمحاكم الأجنبية، أما الحصانة السيادية فتعني أن الدولة لا تستطيع ارتكاب خطأ قانوني وهي محصنة ضد أي دعوى مدنية أو جنائية بالمعنى الدقيق للكلمة في النصوص الحديثة، وبالتالي لا يمكن إخضاع صاحب السيادة للمحاكم دون موافقته على الاختصاص القضائي. ويمكن التنازل عن الحصانة السيادية للدولة فقط بما يلي:

أ/ تحرير اتفاق مكتوب مسبق.

ب/ إقامة الدعوى دون المكالبة بالحصانة.

ت/ الخضوع للولاية القضائية كمدعى عليه في الدعوى.

ث/ التدخل في الدعوى أو اتخاذ أي إجراء بشأنها إلا لغرض المطالبة بالحصانة.

وبالتالي إن الحصانة السيادية لا يمكن التنازل عنها للغير لأنها شرط من شروط قيام الدولة ووحدتها وجغرافيتها التي كفلها القانون الدولي.

يتبن مما سبق ان الحصانة السيادية قاعدة راسخة من قواعد القانون الدولي لا يمكن المساس بها، و قانون ملزم لكافة الدول في أي وقت وفي كل الأحوال، فلا يجوز لأي دولة أن ترفض تنفيذ أي من أشكال الحصانة السيادية التي جاءت في القانون الدولي العام حتى وإن كانت على خلاف مع تلك الدولة، وإلا عُدت دولة مارقة وخارجة على القانون ومنتهكة للشرعية الدولية، ولا تقتصر الحصانة السيادية على الدول فقط، بل تنطبق، بالقدر ذاته، على قادة الدول وممثليها و وكلائها، كما انه لا يمكن التنازل عنها للغير لأنها شرط من شروط قيام الدولة ووحدتها وجغرافيتها التي كفلها القانون الدولي.

المصادر والمراجع:

  أ.م.د. أحمد عبيس نعمة الفتلاوي، الانقلاب المفاهيمي للحصانة السيادية: قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (Jasta )الأمريكي امنوذجا، مجلة العلوم القانونية، كلية القانون، جامعة بغداد، العدد الثاني، المجلد 32 ، 2017م، ص 38.

حسين العزي، إعادة هيكلة الديون الخارجية "اليوروبوندز" اللبنانية من منظور القوانين اللبنانية و الأميركية، المركز الاستشاري للدراسات و التوثيق، العدد 21، نيسان 2020، ص 13.

سعود بن عبد الله العماري، الفرق بين الحصانة السيادية والحصانة الدبلوماسية، جريدة الشرق الأوسط، العدد 13851، 30 أكتوبر 2016م

موقع حماة الحق للمحامات، حصانة الدولة في القانون الدولي، 01 /12/ 2021

محمد عبد الكريم يوسف، الحصانة السيادية للدول وشرط التنازل عنها في القانون الدولي، الحوار المتمدن، العدد 6907

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia